Input your search keywords and press "Enter".

بين الحارة الصاخبة وشارعنا الهادئ..حكايات تركتها تمر

283 Views

قمت بتدوين هذه الفكرة في عام 2018، كل ما كنت أريده هو تسجيل ما في ذاكرتي لبعض المشاهد التي مررت بها في طفولتي حيث انقمست حياتي بين الإقامة في بيت جدتي في شارع شعبي قديم بالي ومبتلى في منطقة “محرم بك”، وما بين الحياة التي كانت تبدو هادئة في شارعنا ” في غرب الاسكندرية حيث منطقة البيطاش” الذي كان مناسبا لابناء الطبقة المتوسطة الفاريين من زحام الحارات والذين يحلمون بهدوء قليل التكلفة لكنه كثير الكلفة..في 2018 كانت بدايات التغيرات على شارعنا قد ظهرت بشكل ملحوظ..لكن حتى ذلك الوقت كان لدي تصميم على الاحتفاظ بالمشاهد التي أوشكت على الذهاب من ذاكرتي.”

عندما كنت صغيرة لم أكن أعرف انه فى يوم من الأيام سيكون اكبر أحلامى أن ادون الحكايات، لذا نادتنى حكايات كثيرة لكنى لم البى النداء.
لكن مازال هناك أمل، امل ينام فى أعماق ذاكرتى، ففى ذهنى بقايا تفاصيل لحكايات مرت عليً، حكايات حدثت بين شاطئنا القريب والحارة القديمة.

قضيت سنين طفولتى الأولى فى بيتنا القريب من الشاطىء والميناء، منطقتنا كانت بعيدة عن وسط الإسكندرية ولم تكن مأهولة بالسكان، فوسائل المواصلات اليها نادرة والخدمات قليلة نسبيا، لذا اعتبرها الجميع مكاناً جيداً للعزلة او لقضاء الصيف ، لم اجد من فى ذاكرتى اجمل من لون بحرنا الفيروزى ورماله البيضاء وهذا الهدوء المسالم، فى المساء كنت أسمع اصوات السفن شعرت ان صوتها فى الوداع يختلف عن صوتها فى العودة، فالسفن الراحلة تترك صوتاً شاحباً وسحابة من غياب، اما السفن العائدة فكان صوتها فرحاً يشبه صوت طفل راكض يحمل خطاباً فيه أخبار سارة.
فى شارعنا النائى كونت صداقات مع الصفصافات الوحيدة ورائحة الياسمين وصوت السفن، لكنى لم أستطع تكوين صداقات مع بشر، فكما انك لاتنزل النهر مرتين، لاترى الوجه مرتين فى شارعنا ابدا، فمعظم السكان اما عائدون من سفر او راحلون، وهؤلاء العائدون معظمهم من الطبقة التى كانت آنذاك متوسطة، عائدون من الخليج العربى بأموال الصحراء وصمتها أيضاً، لم يكن لديهم حكايات يحكوها أوبصمات يتركوها على الجدران، قرروا الإنعزال كل فى حكايته المنفردة، حاولت ان احصل فى شارعنا الهادىء على حكاية لكنى فشلت. لكن بقى السؤال هل أنتمى الى هنا؟ الاجابة نعم بحكم الشبه بينى وبين الصفصافات الوحيدة والشارع الهادىء فانا انتمى الى هنا. لكن ما الذى جذبنى الى الحارة وجعل مشاعرى تجاهها متناقضة كرهاً وحباً

انتقلت لفترة للعيش فى بيت جدتى، فى حارة قديمة فى جوف الإسكندرية، كنت اعرف الحارة من افلام الأبيض والأسود كانت تمثل لى البساطة والعفوية، طيبون وبسطاء تملأهم الشهامة والمروءة. كل مافى الحارة جميل وطيب، لكن فى حارتنا تلك لماذا أشعر بشىء مختلف؟
هنا يوجد شىء مختلف.. شىء بدائى، لا أحد يسير بنظام أو يلتزم بقانون، لا إلتزام بشىء لامواعيد محددة بدقة، الجميع يصيحون ويتحدثون بصوت مرتفع، الجميع يتدخلون فيما لايعنيهم، هل هم أشرار أم فقط مختلفون؟ هل هناك مايفصل البساطة عن الغوغائية فى تلك الحارة؟ هل مايتغيرهنا يخص المكان وحده ام العالم اجمع؟.
فى الحارة القديمة مشيت على اطراف القصص، سمعت نداء الحكايات لكنى لم ألبى، بعد أكثر من ربع قرن ترقد فى ذاكرتى بعض المشاهد والأسئلة.. أتذكر المرأة العجوز التى كانت دائماً تجلس امام بيتها على ناصية الحارة، على الكرسى الخرزان تجلس كزعيمة لقبيلة عتيقة، تسدل قدماً على الأرض والاخرى ممتدة على مقعد امامها، عبائتها سوداء وكذلك غطاء رأسها، وبمثل عظمتها وثباتها تجلس بجانبها الشيشة بجسدها المشدود ومبسمها الخشبى وأحجارها التى لاتنطفىء، تجلس المرأة العجوز بشموخ وكأن الحارة معبد وهى أيقونته، ما سر تلك السطوة والقوة واحترام الجميع لها؟ بالطبع لم اكن اعرف لكنى كنت اتسائل، اه لو لم اكن صغيرة على كتابة الحكاية لم اكن لادع حكايتها تمر، لكنت سألتها عن قصتها وجعلتها تحكيها لى سطر سطر.
فى الشارع حرافيش وفقراء وطغاة ومعاتيه، فى الشارع طيبون لايعينون الأشرار على طغيانهم لكنهم لايقفون ضدهم ابداً، يخرجون رؤسهم الصغيرة من شبابيك بيوتهم ويشاهدون، اذا ما سرت يوماً بصحبة جدتى كنت أسمعها تبادلهم الاحاديث السريعة، كانوا يبتسمون لى ويمازحونى.
فى الشارع عجائز لديهم اسناناً فضية طالما تسائلت هل لانهم طيبون جداً ميزهم الله واعطاهم أسناناً فضية.
وكما كانت لديهم أسنان فضية فكان لديهم حكايات كُثر بل وأساطير كنت اسمعها أثناء تبادل حديثهم مع جدتى، حكايات عن مسافرين وغرباء ومفقودين ومكاذيب و ممسوسين بالجان وتائهين وهؤلاء كثر.. اه لو كنت أكتب الحكايات لم اكن لأدع واحدة تمر.
فى الحارة الفتيات يرتدون فساتين ملونة مزركشة بكرانيش تشبه لفساتين الغجر، انا احب فساتين الغجر، لكن امى كانت تشترى لى فساتين ذى لون واحد ورسمة بسيطة، فساتينهم كانت ترقص تغنى تثير الصخب اينما ذهبوا، وفستانى كان يقول انا هنا لاصوت لاوجود لاصخب اشاهد القصص دون ان اصنعها او اشترك فيها.
حين عدت الى موطنى الأصلى عدت للأشياء التى تشبهنى، ولكن الأشياء تتغير فطوال العشرون عاماً المنصرمة كل ماهو جميل يسقط فى الجب، و صار شارعنا بل صارت المدينة كلها غريبة وفوضوية وبلا قوانين ايضاَ، وسقطت الفيلات تحت انياب البلدوزرات، وشاطئنا تحت ايدى مستأجرين الشواطىء واصحاب المقاهى، ولم تعد مياهه فيروزيه ولا رماله بيضاء. وكل ما هربنا منه فى الحارة امتد على المدينة بأكملها، وان كان فى الحارة حكايات تربط الناس ببعضها تصنع بينهم قوانين عرفية تحفظ حق الغرباء فى عزلتهم وحق الجار فى قربه، فكل شيء الآن صار بلا قوانين، المدينة كلها وليست الحارة وحدها صار كل شىء فيها يناقض بعضه.
اما فى الحارة نعم كان كل شىء فوضويا وعفوياً وبسيطاً ومخيفاً، فى الحارة نوع من الجمود والجموح والقوة والرقة، نوع من الصخب الممزوج بالونس والدهشة، فى الحارة حكايات كانت تمنحنى الدهشة، مررت عليها مرور الكرام، خفت الإقتراب منها والإختلاط بها، خفت ان اضيع فى مساحاتها الواسعة فقررت التيه فى فراغ شارعنا النائى، ومن يخاف الحكايات تعاقبه وقد عوقبت فسارت امامى ولم ادركها وقتها وتركتها تمر