Input your search keywords and press "Enter".

ربع متر نجيلة

386 Views

هل تتخيلوا معي أنه في يوم ما سوف نستيقظ من النوم ونؤجل كل الصراعات الوجودية التي نعيشها ونبدأ صراع مختلف؟  الصراع في هذا اليوم سوف يكون على شجرة”؟؟ قد يبدو الأمر محض من الفانتازيا، لكن هذا الواقع يسير بكل قوة إلى فانتازيا غير متوقعة..سوف أحكي لكم لماذا اعتقد أنه في يوم ما سوف لن يكون لنا هم في الحياة إلا البحث عن “ربع متر نجيلة”

منذ ميلادي كان بيتنا محاط بالكثير من الأشجار، فأنا من السكان الأصليين لمنطقة البيطاش، شاهدة على الجمال القديم والجهنيمات المتسلقة على الجدران واشجار الياسمين، وبدأ الزحف الهمجي يأكل كل شيء بهدوء أفعى لئيمة تلتهم فريستها بثبات، وبدأت  الخرسانة تمتد حتى ابتلعت اخر جهنمية في الفيلا المقابلة لبيتي ونمى بدلا منها بلوك اسمنتي اطلقوا عليه اسم “برج” وفيه البلكونة المقابلة لي نمى رجل يقف بالفانيلا الحمالات في البلكونة  يتف وينف ويضرب شخيره عنان السماء. 

أما في الجهة الخلفية للمنزل بقيت شجرة وحيدة داخل أرض لمنزل مهدوم لا نعرف له أصحاب، لذا قرر  السكان ان يجعلوها بمثابة مكان رسمي لألقاء القمامة..والغريبة ان الشجرة حتى الآن صامدة، لكني لم أصمد أمام ذلك العبث وقررت أن ابحث عن مكان فيه شجر دون قمامة.

بدأت رحلة البحث عن شقة مستقلة عن بيت العائلة لا تزيد عن غرفتين بشرط أن تكون في مكان حوله شجر، لكن المشكلة أن الايجارات في الأماكن التي تصلح للعيش مرتفعة للغاية، والحل الوحيد كان في قبول مشروعات عمل جديدة تجعل ساعات عملي اليومية تزيد عن 12 ساعة،  سوف أعمل لأكثر من نصف اليوم من أجل الحصول على شجرة  وسوف أتنازل عن إيماني بأن “الإنسان يعمل ليعيش لا يعيش ليعمل”..في النهاية وجدت مطلبي في شقة بمنطقة “زيزينيا “، البيوت حولي قصيرة وقديمة، وغرفتي تطل على فيلا بها الكثير من الأشجار يسكنها طيور تهوى الثرثرة، لكني أحبها.

الآن مشكلتي محلولة، لدى عمل يضمن لي أن أسكن أمام شجرة، لكن في كل مرة أقف أمام الفيلا والاشجار يتنابني الخوف، ماذا لو تم بيع هذه المساحة الهائلة وصب مكانها بلوك من الخرسانة، خاصة أني الاحظ ان الفيلا لا سكان فيها وانها احيانا تؤجر للمناسبات؟ يعني أن اي فرصة تجعلها مصدر للملايين لن ترحم الشجر..

اذا لابد أن يكون هناك خطة لمنطقة ناجية اخرى..لكن هذا يعني البحث عن عمل مساعد او القبول بمشاريع تجعلني اعمل 16 ساعة في اليوم..وهذا يعني تقليص مساحات النوم والاستحمام والطعام ومقابلة الاصدقاء والجلوس مع النفس إلى أقل حوالي 8 ساعات يوميا.

وهنا يراودني سؤال، اذا كان البحث عن مكان فيه شجرة يكلفني ساعات عمل اضافية، واذا كانت فرصة الحصول على اماكن مشجرة وآدمية للعيش تتقلص كل يوم لصالح الذين يملكون ثروات يشترون بها وحدات في المدن الناجية، وإذا كان آخر تقرير اطلعتت عليه يفيد بأن في الاسكندرية وحدها كان نصيب الفرد من المساحات الخضراء في عام 2013  7م مربع، وفي عام 2022 اصبح 5 م مربع..فهذا يعني أنه بعد مرور خمس أعوام أخرى ومع كل أنشطة “أكل الأخضر” بشكل سريع ودون تحفظ فهناك احتمالية كبيرة لأن يتقلص نصيبي لأقل من ربع متر نجيلة؟ وهنا أجد نفسي أمام سؤال وجودي ” لكي احصل على مال يمكنني من التواجد في مكان به أخضر ونجيلة؟ كم يوم عامل من المفترض أن اعمله في اليوم الواحد؟ ما هي الأساسيات التي سوف اتنازل عنها من أجل الحصول على حقي الدستوري في النجيلة؟

بينما أفكر في فيلم الرعب القادم عندما تختفي الأشجار، أجد الناس حولي ينقسمون حول حب الصيف والشتاء، وكأن حرارة الحب هي المسؤولة عن “اللعب في الترموتر”، بينما في المشهد السفلي في جوف الارض، ترتفع الحرارة درجة، وعلى وجه الارض تقتل شجرة، وهذا يعني ان الخناقة الافتراضية حول حب الصيف والشتاء سوف تتحول إلى خناقة على الأرض من أجل أن خطف ربع نجيلة والنجاة به.

المشهد الذي في عقلي فانتازي للنهاية، اتخيل أن المدينة التي سوف تصبح صحراوية باهتة وسوف يكون البحث عن “ربع متر نجيلة” هو سبيل النجاة، بعد أعوام سوف تكون مساحتنا الصغيرة من اللون الأخضر هي المصدر الوحيد للأكسجين أو الظل او أي شيء يشبه الحياة، لكن كيف سيحمل كل شخص نجيلته الشخصية؟ 

 كيف سنحميها يوميا من محاولة السرقة؟ هل سنجلس عليها للحصول على الاكسجين؟ ام نضعها فوق رؤسنا للحصول على الظل؟ كم شخص سوف يطارنا للحصول على ما حصلنا عليه؟ فكلما قلت الموارد زاد الصراع، وعندما يكون الملاذ الاخير لك نص متر نجيلة فالصراع لن يكون مسالما ولا اخضر على الاطلاق… انا ما زلت افكر ومازلت اتخيل سيناريوهات وما زال عندي أمل بأن شيء ما سوف يحدث يوقف ذلك العبث، لكني احتاج إلى ربع متر نجيلة افرد عليه ضهري للتفكير بروقان وراحة.

للمزيد: بين الحارة الصاخبة وشارعنا الهادئ..حكايات تركتها تمر