عزيزي سائق المترو.. بعد يوم طويل سحقني فيه حر القاهرة وعدم مبالاتها، دُفعت بقسوة داخل العربة فسندت رأسي تعبًا بجوار الباب، فإذا بعلبة بلاستيكية تواجه رأسي، فركت عيني حتى أستطيع رؤية المكتوب عليها دون نظارة. كانت جملة في منهتى الغرابة: “إذا أردت التحدث مع السائق اضغط على الزر”. أعتقد أن من أوجد هذه العُلبة أراد أن يصنع لي ولك فخاً. فهو لم يذكر تحديدا الدواعي المقبولة للحديث معك أو إليك. سأفترض أنك تسمعني، وأن ماسأقوله يستدعي الضغط على الزر
الضغطة الأولى
ألو..أحم أحم..هل تسمعني؟ حسنا،عزيزي سائق المترو، من فضلك توقف هنا قليلا؛ أشعر بالدوار، أنت تسير بسرعة جنونية غير مبررة، بالقليل من السرعة سنصل لوجهتنا أيضا، لكن تلك السرعة تُكسر الحياة من حولي؛ على الجانبين توجد حيوات أخرى و أريد أن أدقق النظر فيها وسرعتك تمنعي. فهلا تبطئ! لا ضير في التأخر ساعة أو ساعتين. لماذا لا تتوقف؟ هل تسمعني؟
الضغطة الثانية:
عزيزي سائق المترو، ماذا لو أقفت القطار الآن؟ فلنخبر الجميع أن هذه محطة الجميع؟ لن يشك أحد في ذلك. دعنا نجلس ونراهم وهم ينزلون في وجهة غير التي يعرفونها. أوكد أنهم سيكملون بلا أسئلة، ومن يشك في سائق القطار؟ هيا توقف الآن هذا المشهد يستحق المغامرة…لماذا لا تتوقف؟
فلأجرب الضغطة الثالثة
عزيزي سائق المترو، لابد أن تتوقف الآن؟ حجتي هذه المرة قوية، لقد ركبت القطار الخطأ. كان من المفترض أن يكون الطريق ممتلئا بالظل. لكن طالما أنه نفق طويل وممتد فهذا يعني أني اتخذت اتجاها غير الذي أردته، لقد تعرضت للخديعة، لم يكن هذا ما أريده، وما قطعت تذكرتي من أجله.. بالله عليك. لديك آلان سبب قوي؛ حياة أو موت. الأ يكفيك إخبار الجميع أن هناك شخص ضل طريقه وعلينا إنقاذه؟ لا بل ضُلل عن عمد، تلك العلامات غير واضحة وصعبة الرؤية ويمكن أن يخطئ بها خبير هندسي، أرجوك إنزلني هنا؟ لا لست كدرويش حيث لا يعجبني شيء. لكني أختنق من الأنفاق المظلمة… لماذا لا تتوقف؟ يبدو أنك كل أسبابي غير مقتعة فلنجرب مرة أخرى
الضغطة الرابعة
، عزيزي سائق المترو، لا تخف، لن أطلب منك التوقف، سوف أكمل معك حتى تنزلني في الوجهة التي تنتهي عندها تذكرتي. لكن عقابا لك على عدم الرد سوف استمر في التكلم طوال الرحلة. أتعرف بالأمس كان هناك الكثير من المعلومات المتداولة حول ما يسمي “تيار السحب”. هو تيار بحري تتداخل فيه الأمواج وتسحب كل ما عليها للداخل حتى البارعين في السباحة. أنا خبيرة فيها لأني عُلقت بها مرارا وخرجت منها مرارا. طريقة النجاة تعتمد على فعل واحد؛ أن لا تفعل شيئا، وتترك التيار يدفعك للأمام. إما إذا قاومت فسوف يزيد سحبك للوراء. أتعرف ما هو المرعب حقا في هذه اللحظة؟ هو الشعور بأن الشيء الوحيد الذي تجيده أصبح “مش شغال”. عزيزي سائق المترو، هل وقعت من قبل في تيار سحب؟ لا اعتقد، لكنه أشبه بأن تصبح المكابح بين يديك معطلة، الفرق أنك سوف تنتطلق للأمام وسوف يكون موتك محتما، أما في البحر سوف تذهب بعيدا جدا وربما تعيش في ظلام ووحدة لأطول فترة ممكنة.
هل أزعجتك بحديثي الطويل؟ إذا كان الأمر يضايقك يمكنك أن ترد عليً. بالمناسبة بالأمس أيضا اكتشفت عن الحياة سرًا معقدًا. فهي ليست بتلك الصرامة أو الترتيب الذي نظنه. الحياة هي أشياء تحدث ليس لأشخاص بعينهم. وارتحت عندما عرفت ذلك
بالمناسبة، ألا تشعر بالملل؟ قيادة نفس القطار في نفس الاتجاه يوميا عمل ممل. ألم تشعر في مرة أنك تريد القفز وترك القطار لمصيره؟ هل توجهه القطار فعلا أم أن الحركة أتوماتيكية؟ الم تفكر أنت في كسر الزجاج والحديث إلى الركاب؟ سيدي سائق المترو، هل أنت هنا؟ هل تسمعني؟ هل فعلا عندما أريد أن أتحدث إليك فما علي إلا كسر الزجاج والضغط على الزر؟ ألم أقل لك أن في الأمر خدعة ما