في الحضانة التي أسكن فوقها يمكن للجميع أن يميزوا صوت طفل واحد من بين حوالي 20 آخرين. ليس لأن نبرته هي الأعلى بل لأنه الأكثر جدارة في إظهار “النتع”. فهو يقرأ الأرقام والحروف ويغنى الأناشيد من صميم صميم قلبه، لكنه لا يفعل ذلك بحماسة طفل، إنما برغبة كائن حي تم برمجته. وأعتقد أنه من النوعية التي تم تحميلها مسؤولية تحقيق أحلام الوالدين، فلا يمكن أن يخرج هذا الأداء إلا من طفل ينزل من بيته وفي عاتقه مسؤولية أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا أو أي شيء يعلو بأمال الأسرة ويسمو بها.
هذا النتع اليومي الذي يصل إليً وأنا في الدور الرابع بينما الحضانة في الدور الأرضي يحملني مسؤولية تجاه هذا الطفل. أرغب في النزول إليه وأمساكه من تلالبيب ياقة قميصه وأن أصرخ فيه: يا بُني، ليس بالنتع تُحقَّق الأحلام. هذه الدنيا ليست عادلة، ولن تجدي محاولاتك لكي تبدو أشطر كتكوت -بينما أنت لا أشطر ولا حاجة- في عالم شعاره “Work smart, not hard”.
كل يوم أقاوم رغبتي في نٌصح هذا الولد، ليس جٌبناً مني، لكن لأن في هذه الحالة يجب عليَ أن أقدم له بديل أفضل. وفي حضانة تتكون من غرفتين لا يمكن لطفل ينتمى لأولى درجات الطبقة المتوسطة أن يكون لديه أي أدوات تجعله يـ work Smartly. لذا فلا سبيل أمامه إلا “النتع” تلك الكلمة التي لا اعتقد أن هناك أحد غير مصري يدركها .
فما هو هذا النتع يا بني؟ دعني أقول لك:
في اللغة العربية تنتمي الكلمة لفعل “نتع”؛ أي أخرج السائل أو الشيء قليلا قليلا، لكن في العامية المصرية هي دليل على الأشياء التي تحدث نتيجة مجهود مُضني، وهي دائما تأتي في سياق “نتعت قلبي”. وكأنك قمت بالفعل من أعماق قلبك بل جذبت قلبك بشدة وقسوت عليه لكي تثبت للجميع أنك قمت بما عليك القيام به.
والنتع يا ولدي له أصول تاريخية. فالأسطورة تقول أن إيزيس جابت الوديان لجمع جسد أوزير لكي تعود إليه الحياة. فتخيل كم المجهود الذي بذل لكي تعود الروح لصاحب أول قصة في هذه الأرض. وفي هذه الأرض يسير النيل منذ آلاف السنين، ولكنه لا يسير في هدوء حيث يخصب التربة ويُنمي الزرع مثل باقي بلدان أفريقيا، لكن لأنها أرض المصب فلابد من ترويضه ومنعه في مكان وإطلاقه في آخر، عرف المصريون النتع مع هبتهم العظمي منذ القدم. وفي هذه الأرض لا يحصل الحاكم على عرشه إلا بنتع جيل، ولا يتركه إلا بنتع أجيال بعده. فهل يمكن أن نتصور أن الأشياء تحدث smartly؟ أنا لا اعتقد ذلك.
هذا بالنسبة للجذور التاريخية وهو أمر ساري على الجميع لا يفر منه أحد، لكن هذا لا يمنع أن مكانتك الطبقية هي التي تُحدِّد نصيبك من النتع. فإذا نتعتك أمك ووجدت نفسك في الطبقة المتوسطة الدنيا فهذا يعني أنك في الدائرة التي يطلق عليها “لا هدايا مجانية هنا”.. سوف تصير حياتك سلسلة من المجهود المتصل الذي يجب أن يبدأ بإخراج كل شيء من قلب قلب قلبك.
في هذه المساحة الطبقية تكمن المشكلة في أنك لا تبدأ مشوارك في شارع طويل يحتاج إلى جدية السعي، لكنك تبذل نصف عمرك لكي تجد الشارع من الأساس.
في هذه المساحة أنت لا تنتع فقط لكي تبني حياتك، لكن لكي تتخلص من آثار نتع الآخرين على كل شيء. يحدث هذا بسلاسة وفي التفاصيل اليومية. فأنت تنتع مع شركة اتصالات قررت أن تقضي على رصيدك قبل وقته بإسبوع، فتظل تقنع الجميع أنك لم تستهلك وحداتك، لكن لا تجدي محاولاتك وشتيمتك وتهديداتك، فتستسلم. تستسلم لسرعة انترنت أبطأ من زمن ثقيل. تستسلم لجار ترك قمامته أمام بيتك ولا قانون يحميك منه أو يجبره على نظافة مكانه. تستلم لانزلاق قدمك في حفرة جديدة في الأرض لم يتم ترميمها بعد أن قامت شركة ما بتجديد سلك، أو ماسورة تحت الأرض، فقررت تكسير الأسفلت وترك ترميمه لجهة مسؤولة أخرى. وهذا يستلزم طبقات كثيرة من الزفت. وهنا ستعرف من سيظل في الزفت للأبد.
رحلة نتع طويلة تسيرها في أول ساعات يومك وقبل أن تبدأ أي نشاط، بعدها تبدأ أخرى مع سائقي المكروباصات، ومع أجرة تم زيادتها بالتحالف مع بلطجية الموقف وفي ثبات عميق لأي سلطة منظمة. تحاول أن تنتع، تتحدث بالمنطق بالقانون لكن لا فائدة. في النهاية تستسلم، يتجسد استسلامك أكثر وأنت تجلس وراء “كرسي السواق” فيقوم بالبصق من شباكه ليصل الرذاذ إلى وجهك من شباكك. فتقرر ألا تنتع مع أمثاله.
في هذه الدرجة الطبقية كانت الشهادة الجامعية هي سلم الصعود الاجتماعي درجة، تليها قدرتك على أن تكون عالما بلغة أو لغتين ولكن “with perfect accent”.. وأن يكون ملفك الوظيفي ممتلء بالخبرات. نتعت لكي تصل لكل ذلك وفجأة تنتعك الدنيا إلى واقع يأخذ فيه أبناء الطبقات الأعلى الفرص الأكبر، لا لشيء، إلا لأن الأشياء التي حصلت عليها أنت بالنتع حصلوا هم عليها بالوراثة، فإذا أخذت سنين لتتعلم لغة فهي لديهم By defult. وهذا ليس خطأئهم لكني قلت لك في البداية أن الحياة ليست عادلة.
و لو منحك الاستمرار في النتع فرصة للتقدم و بدأت “تندع” فسوف يكون عليك أن تظل تنتع من أجل الحفاظ على مكتسباتك. لقد جئت من مكان عرفت فيه أن الثمن يدفع مقدما وهذا هو ما سوف يسير معك لنهاية عمرك.
والنتع يا بني له أيضا تأثيرات مستقبيلة. ولأنك جئت من الظلام لن تقتنع أن هناك مساحات مشرقة، ولأنك تعودت أن تقوم بكل شيء بجهد فلن تقنتع أن هناك أشياء تحدث بذكاء. ولأنك جئت من بيئة يقوم فيها الجميع بفعل النتع، ولا يقتنعون أن السعادة ممكنة، وينتقدون أي شخص يجيد الانبساط ويقولون عليه “مبسوط كده على طول ولا على باله” فهذا لا يعني أنك لن تتأثر بهم. مع والوقت سوف تكون أنت المشكلة، ستتحول لُمنظر، لشخص قادر على إثارة المشكلات لا حلها. بل سوف تكون أنت العقبة التي ينتع الآخرون من أجل التخلص منها. لكي تستمر المأساة ولكي تشعر أن حياتك لم تضع هباءً.
وهذا هو اللي صار وهذا هو اللي جرى وهذه هي الحقيقة التي أريد أن أخبرك بها. فما يجب أن تتعلمه ليس حساب رقمين أو نطق حرف وحفظ نشيد. عليك أن تتعلم كيف تكون قويا بما يكفي عندما لا تفهم حكمة الأقدار، وصابرا كفاية لتهدأ مع دنيا لا تعدل. وذكيا كفاية لتدرك أن عليك صنع أدواتك الخاصة. أدوات لا يجبرك عليها من ظلوا سنينا “ينتعون” ولا يحرمك منها من أخذوا الاشياء بلا ثمن.
يا بني أنا أعرف أنه لا يوجد شيء يدلك على كيفية العمل Smartly لكني أعرف أيضا أن اخرة هذا النتع لن تزيد الحياة إلا شخصا بصوت مبحوح غير قادر على النتع مع أي أحد آخر.