الموت الأول
أرخي يدي بهدوء مستكين. الخيالات المشوشة والصور المتكسرة داخل عيني تبدأ في التلاشي ويبقى خيط رفيع من الضوء ثم ينسحب لبعيد. بينما أوشك على الاستسلام بكل سعادة لهذا السكون المنتظر، تفزعني رنة المنبه على هاتفي. فمن ضمنت عشرات التنبيهات الموجوده اخترت أن تكون موسيقى “افتتاحية السيرك” هي النغمة المخصصة للمنبه
هي افتتاحية مناسبة جدا لحياتي. أترك سريري، أترك سكوني على الوسادة، وأقرر ماذا سأكون اليوم؟ بهلواناً على الحبل؟ أسد داخل حلبة نار؟! أم فيل يريد أن يطلق خرطومه كسوط على أجساد الجميع لكنه يتراجع لأنه طيب القلب، لأنه فيل. هل رأيتم من قبل فيل شرير؟ أيا ًما كانت شخصيتي المختارة لعرض اليوم فلا شيء سيتغير في هذا العالم.. عليَّ إذا تحمل شجاعة الاستيقاظ. وأن أبعث بعد النوم في خلق جديد
الموت الثاني
افتح الثلاجة. أارتاح عندما أجد كل شيء داخلها في مكانه مثلما تركته بالأمس. لا.. لا؛ ليس ترتيب الثلاجة وحده هو المريح، بل المطبخ المرتب هو مصدر اطمئناني الوحيد. كل شيء ثابت في مكانه منذ الأمس. يقولون “عندما تفقد المرأة السيطرة على حياتها يزداد هوسها بالسيطرة على المطبخ”. لكن هوسي يزداد كلما أدركت أن هناك أشياء تسطتيع أن تكمن في موضعها لوقت طويل ولا تتغير، كفكرة تتحدى الزمن،.
أمد يدي داخل الثلاجة. أحضر المكونات. في قالب واحد أخلط الخضروات مع قطع الدجاج وكل ما تصل له يدي من توابل. تخرج رائحة تجمع ذوبان كل تلك الأجساد معا، تاريخها، عمرها السابق. الألوان الحيادية أصبحت الآن مختلطة بالحركة، بالرائحة، بالذوبان والتأثر بحكاية ثمرة أخرى. تخرج من مطبخي رائحة أشياء تحدث.
الموت الثالث
تسلمت نتيجة امتحانات الشهادة الابتدائية، كانت غير متوقعة. كل هذه الأرقام لا تساوي المجهود المبذول، السهر الطويل، الحرمان من الأنشطة المحببة، الخوف والرهبة من كل الامتحانات السابقة، القلق الدائر في الساعات التي تذاكر أمي معي وتراجع المنهج. بكيت بعدها كثيرا.. بكيت بعد كل امتحان كانت نتيجته لا تساوي ما بُذل قبله. زحفت الرطوبة على الحائط المصمم لتعليق شهادات التقدير المتوقعة، تقشر الطلاء ورسم صورة تشبه وجهي. لسنوات طوال بكيت. هذا لم يكن متوقعا! ظللت أنظر إلى الحائط..حتى وجهي المطبوع فوقه تقشر..شرخ كبير بدأ يظهر..فخرجت من المنزل ولم أعد أرى الحائط ثانية.
سرت في طرقات وعرة..غادرني الأحبة دون وداع..سافرت لأبحث عن الرفقة فلازمتني الوحدة..كل ذلك لم يكن متوقعا. دار عقرب الساعة مليون مرة .اصبح تكويني مركبا من كل ما هو غير متوقع..انا الآن شخص جديد.
الموت الرابع
اوشكت على السكون التام. كانت هذه الموجة أصغر من الموجات التي سبقتها لكنها أقدر على تحطيمي. انهارت مقاومتي. والأن استسلم تماما حتي تبتلعني تلك الصغيرة ولن أكترث. لا مقاومة اليوم. مددت جسدي على الماء بهدوء وأغمضت عيني، كقشة مثقلة بضربات كبرى وحان وقت الغوص لأسفل. نظرت للسماء للمرة الأخيرة. كانت تسير عكس اتجاهي بالرغم أني كنت أسير في اتجاهها. فردت ذراعي لأبعد ما أستطيع. أغضت عيني. استسلمت تماما وانتظرت الضربة الأخيرة. كانت قاسية، كانت قوية..شعرت بتكسر ضلوعي على شيء صلب، فتحت عيني فضولاً..كان شعاع النور يزيد والصور المتكسرة تتجمع..ونغمة السيرك تفزعني وتخبرني أن ما زال لدي يوم جديد.