Input your search keywords and press "Enter".

أصدقاء أنقذوني من الأنبوب الأبيض

155 Views

يمر البعض بتجربة أشعة الرنين المغناطيسي لتشخيص أمراض متعددة، واليوم وُضِعت في التجربة، ربما هَول التجربة ليس في الملل الذي تشعر به، لكن عندما تقف أمام الجهاز فسوف تقول لنفسك “ليس من المعقول أن يخترعوا جهاز كبير مثل ذلك -يشبه آلات الزمن- لتشخيص أمراض بسيطة”، فالدخول في هذه الفجوة يستدعي حدثا ضخما..لكن من نعمة الله عليَ أن حدثي كان بسيطا ولا يذكر، لكن لكي أهرب من هول الخوف وتصور السيناريوهات القادمة لجأت إلى خيالي طوال 25 دقيقة، وهذا ما حدث داخل عقلي فيهم

كرة مطاطة ومساحة للهروب

أصعد درجات وأنام داخل السرير الخاص بالجهاز، يتم تثبيتي بشكل جيد من قبل المتخصصة، تعيد على مسامعي  المعلومة مرة أخرى: “سوف تمكثين 25 دقيقة دون حركة، هل لديك المقدرة على ذلك؟” أقول نعم.. تسأل: “هل لديك فوييا من الأماكن المغلقة؟” فأرد: “ليس لدى من أنواع الفوبيا إلا فوبيا السقوط، مع أني لم أصعد أبداً”..تعطيني كرة مطاطية بين يدي وتقول لي  “إذا أردت إنهاء الإشاعة في أي وقت اضغطي على هذه الكرة”..أقول حسنا

لكن فجأة أشعر بشيء رائع، في يدي كره بمجرد الضغط عليها ستتوقف العملية، وأخرج منها كما دخلت بلا أي علامات أو خدوش.  لماذا لا نعيش في هذه الحياة بكرة مطاطية مثل تلك؟ ندخل في التجارب والاختيارات، وعندما نكتشف أن هذا لم يكن الطريق الذي نريده نضغط على الكرة فنرجع لنفس نقطة الانطلاق مع زيادة إمكانية أنك سوف تعود إلى نفس الزمن دون أي خسائر..لماذا ينبغي أن نخرج من كل التجارب بعلامات بطول الزمن؟ على العموم الحياة ليست سهلة دائماً

بتمشى في الزمن 

يبدأ الأنبوب بالتحرك للداخل مع ظهور صوت الجهاز تن تن تن، أشعر أني أمر بتجربة مثل تجارب الصعود للفضاء في افلام الخيال العلمي، تزيد مساحة البياض من حولي..كأني على وشك تجربة عميقة تستحق أغنية عميقة إلى درجة مخيفة، ابحث في القائمة التي أعرفها، لكن أجد اغنية الرفيق ويجز “بتمشى في الزمن محشي طاقة وعندي أمل” تفرض نفسها بكل بساطة..فعلا كانت حركة الأنبوب أشبه بالمشي في الزمن حيث لا تدرك أي شي، لكني مقيدة لا طاقة ولا أمل إلا الخروج من هذا الأمر بعد 25 دقيقة

تمر دقائق بسيطة، لا أفكر في الوقت، ربما هذه أول مرة في حياتي لا أحتاج إلى التفكير في الوقت، فقد أخبروني أن صعوبة الأمر لن تستغرق أكثر من 25 دقيقة، وأنا ممرت بأشياء صعبة واستغرقت سنوات، فالأمر بسيط..لكن مع الوقت يبدأ الملل، أقول لنفسي أنهم لو كانوا في عالم الطب يفكرون قليلا لاقترح أحدهم أن يعلق في سقف الأنبوب بعض “الشخاليل” والألعاب الراقصة الخاصة بالأطفال، لتسلية المرضى،..وفي هذا الوقت عرفت أن الأطفال يبكوا كثيرا لأن البقاء على الظهر متعب حقا

رحلة ظهري الطويلة

أشعر بدرجة الحرارة تزيد، أتخيل مرور خطوط الأشعة تحتي ذهابا وإيابا، هي الآن تكشف جلدي وتدخل إلى أعماقي، تمسح فقرة فقرة وكل عظمة، لكن مهما وصل التقدم بها فلن تكشف أي شيء مهم، سوف تخبرهم بمقاييس، أو اسباب ملموسة للألم، لكنها لن تكشف لهم رحلة ظهري.. أقول لكل خط أشعر بمروره على ظهري انت لا تعرف شيء، هذا الظهر الذي تمر عليه ليس عظام وغضاريف، أنه رحلة طويلة، فهل تستطيع أن تكشفها وتتبع آثارها؟ تحسب أحمالها؟ هل تعرف كم مرة شعر ظهري أنه مكشوف للريح تضربه من كل اتجاه ولا مانع لها ولا مقاوم عنه؟ كم مرة رغب في الانحناء لكنه أبى أن يظهر مهزوما؟ في أوقات كثيرة كان يحتاج إلى شجرة يسند عليها ربما يرتاح قليلا، كان احيانا يبكي لأن “الشيلة” أصبحت أثقل من تحمله، أحيانا يرغب في الاتكاء على ظهر رفيق فيعرف أن لا رفيق له، في مرات كثيرة ود أن يقف ولا يتحرك ويتجمد، يحدث هذا في الطريق دائما.. إنه لا يرغب في الاستمرار في هذا العبث، لكن لحظة إدراكه أنه لن يستفيد سوى ضحكات الآخرين عليه يحمل “أمنياته”شيلته” ماشيا في الزمن محاولا البحث عن طاقة وأمل

فيلمي الهندي الذي لا يتوقف أبداً

يبدأ الوقت في المرور، أشعر برغبة في الحركة، لكني أكدت للجميع أن لدي قوة تحمل خارقة، لكن نفَسي بدأ في التراجع، أشعر أن روحي سوف تسحب مني، هل أضغط على الكرة؟ لا ..هناك أمل واحد، أبحث في جعبتي عن أكثر يساعدني على الهروب من الواقع، إنها الأفلام الهندية..إذا جاء الآن دورها بتنقذني من هذا الأنبوب الأبيض اللعين، أتذكر الرقصات الخرافية، الألوان، روائح البهارات التي تخرج من كل فيلم إلى أنفي، طعم حلوى اللادو الذي أشعر بمذاقه دون أن اجربه بعد..اتذكر كم كان شاروخان غبيا عندما اكتشف أنه احب رفيقة دربه لكن بعد ذهبت بعيدا، كيف تحول رامبير كابور من فنان وحكاء إلى انسان آلي من أجل إرضاء الآخرين، صوت جهاز الرنين يشبه صوت تقليده للانسان الآلي في فيلم تماشا، اتذكر كيف أعادته ديبكيا إلى حكاياته، أتذكر قبلتها التي طالما اعتبرتها أجمل قبلة في تاريخ بوليوود وهوليوود وتاريخ العشق كله، لكني أحزن لأن كابور جرح قلبها في الحقيقة

وفجأة جاء في خيالي فيلم “جوزاريتش”، تحكي قصة الفيلم عن ساحر أصيب بالشلل الرباعي مدى الحياة، إن شعوره مثل شعوري في هذا الأنبوب، لا يتحرك، ولن يتحرك، لكنه كان يمتلك محطة إذاعية يبث من خلالها كلامه، فأتذكر أن قدرتي على الكلام والحكي هي كنزي والحيد وأن لدي إذاعتي بالفعل والتي لا يسمعها أحد، لكن في يوم ما سوف يفعلون..دعينا من الكآبة ..هذا وقت تذكر الرقصات فقط

الساعات تقتلنا

فجأة يصبح الوقت أثقل، انظر أمامي للسقف الأبيض القريب، أشعر أن قدرتي على التنفس أصعب، أهذا هو الاختناق؟ أشعر بالغضب والرغبة في ركل الأنبوب وتكسيره،  أسأل لماذا لا يضعون ساعة تقول ما هو الوقت المتبقى؟ لكن بقليل من التفكير أكتشف أن وضع ساعة في هذا الأنبوب هو تعذيب أقسى من تعذيب النازية..الساعات في الحياة تقتلنا، إن عيننا معلقة بالساعة، جلوسنا مع الأحبة معلق بالساعة، الساعة تستعبدنا حقا..كل شيء حسابه بالساعة..الله رحم الانسان عندما أخفى عنه ساعته، والإنسان مغفل للدرجة التي جعلته يخترع ساعة تخيفه

ياما ليالي أنا وخيالي

مشكلة الجري وراء عقرب الساعة أنه يحرمنا الخيال، لكن الخيال يمكن أن يجعل الساعات الطويلة تمر مرورا خفيفا، تقول أم كلثوم “ياما ليالي أنا وخيالي بفضل أفكر روحي بكلمة يوم قلتها لي”، الخيال وحده هو من هون عليها الفراق، ربما هو الذي وضعها في قصة بلا أمل، وربما هو من الشعور بأن الامل مفقود، هل كان هذا صواب؟ خطأ؟ لا أظن أن للصواب والخطأ مكان في قصص الحب. لكن المؤكد أن الخيال هو الشيء الوحيد الذي يجعلها أجمل أو أقل قسوة، المشكلة الحقيقية أنه لم يكن كافيا ليعطيها إجابات دقيقية على اسئلتها الوجودية “أقول ما شفش الحيرة عليا لما بسلم؟ ولا شافش يوم الشوق في عنيا راح يتكلم؟..ربما لم تحصل على إجابة لأنها أحبت شخص معدوم الخيال! ربما..أما المؤكد أنهم لو وضعوا في هذا الجهاز الأبيض الضخم راديو صغير تنبعث منه حفل لأم كلثوم بنفس وشوشات البث القديم، سوف يكون الوقت فيه جميلا..جميلا جداَ

الخيال ينقذني دائما

نفَسي يبدأ في التراجع، أشعر بالخوف، فألجا إلى الخيال مرة أخرى، أتأكد لحظتها الخيال كان منقذي في اللحظات الصعبة طوال حياتي.. ما أكتبه، ما أسمعه، أفلامي الهندي وكتبي الصديقة هم المنقذين في كل المواقف، أسرح في السقف الأبيض فأري الكثير من الخيول تسبح في لوحة هادئة تماما، خيول قوية تجري بسرعة، لكن هناك خيل يجري على مهل، و خيول خارجة من السباق، أين حصاني؟ ربما هو ذلك الذي يسير بعيدا..لكن إلى أين يتجه؟ أحقق النظر وأسرح فيه لعلي أعرف خطواته..يبدأ الجهاز في التحرك للأمام مع صوت تين تين تين..تتشوش اللوحة.. تتراجع الخيول، يبعد عني حصاني، إنتظر أيها الطبيب الغبي كنت على وشك الإمساك بحصاني كنت على وشك معرفة طريقي.. أخرج بالكامل خارج الأنبوب..تخبرني الممرضة خلاص خلصنا..أفرح لأني قيدي انتهى لكن خيلي ما زال في الداخل في هذه المساحة البيضاء المملة

للمزيد: أعرف طريقاً للنجاة.. لأني هزمت مراراً