“في كل صباح في أفريقيا، يستيقظ الغزال وهو يعلم أن عليه الجري أسرع من الأسد، وإلا فإنه سيُقتل. وفي كل صباح في أفريقيا، يستيقظ الأسد وهو يعلم أن عليه الجري أسرع من أبطأ غزال، وإلا فإنه سيموت جوعًا. بغض النظر عمّا إذا كنتَ أسدًا أم غزالًا، من الأفضل عندما تشرق الشمس أن تكون قد بدأت بالجري”..
العبارة السابقة عبارة لطيفة مناسبة لعصر السرعة والقدرات الخارقة، اقرأها وسوف تشعر برغبة محمومة في الدخول في سباق، حتى تجرب فعل الركض المتواصل. إنها بمثابة دينامو، ما إن يتصل بكتلة بشرية إلا وستتحرك في كل الاتجاهات بجنون: إلى اليمين، وإلى اليسار، وإلى المجهول. لن يهم ما هو مسارها، المهم أن تركض بجنون.
هل لي أن أهمس بسر؟ زرت أفريقيا، وذهبت إلى الغابة في الخامسة صباحًا. رأيت الغزلان تستيقظ بهدوء، تنظر للطبيعة في صمت، وتتماهى مع لوحة الألوان في خيلاء لا مثيل لها. الركض يحدث فقط عندما تبدأ الأسود في الصيد، والأسود ليست في حال ركض طوال الوقت، بل تُخصص وقتًا طويلًا للراحة والعائلة. إذًا، في أفريقيا، في الغابة، الركض قانون مؤقت للعيش، وليس للوجود.
متى بدأ الإيمان بالسرعة كقانون للوجود؟ إن البشر كانوا سعداء ويفعلون الأشياء ببطء، حتى تم اكتشاف الآلة.
ومن ثم صار العالم سوقًا كبيرة لا بد أن يُباع فيها شيء ما، أي شيء، حتى الوقت. وأعلن ذلك بنجامين فرانكلين عام 1748 حين خطب قائلًا: “الوقت هو المال”..خدعة كبيرة سقطت فيها البشرية، وهي في حاجة إلى نبي للتخلص منها. لكن وعد الله أنه لن يبعث أنبياء آخرين لإنقاذنا.
هل كان الإنسان الأول غبيًّا وكسولًا؟ ربما كان كسولًا، لكنه لم يكن غبيًّا. الرجل الذي صنع آلة توفر له الوقت والجهد لكي يجلس يراقب السماء، ويتأمل في كل شيء، ويحب زوجته، كان أكثر ذكاءً وبطئًا، وقدرة على أن يفهم وجوده.
كان الجد الأول أكثر حكمة، أو كما وصف نجيب محفوظ بطل ثلاثيته “أدهم”: “كان يريد أن ينعم بالناي والحديقة”.
لكن الحفيد الأخير يمتاز برعونة أشد من رعونة فعل الاقتراب من الشجرة. الحفيد الأخير اخترع آلات كثيرة، وأصبح وكأنه يعمل لكي يُطعمها. إنه مثل الذي استحضر قبيلة شياطين لكي يصرف شيطانًا واحدًا.
مع الآلة بدأت السرعة، وكان القطار هو أول آلة حديدية كبيرة تمنح الوعود بأنها ستجمع المدن والبشر وتطوي الأميال في ساعات. تنبه الكثير من الكُتّاب إلى خطورة هذا الحلزون الضخم السريع، منهم فكتور هوغو، الكاتب الفرنسي.
في البداية كان مترددًا من هذه التجربة، وبعد ذلك بدأ في وصفها، وصف حركته داخل هذا الوحش الضخم، وقال: “إن السرعة لا تُصدّق، فإن الأزهار على حافة الطريق لم تعد أزهارًا، بل صارت بقعًا أو خطوطًا حمراء أو بيضاء. لم يعد ثمة نقاط، بل كل شيء صار شعاعًا. القمح ضفائر كبيرة صفراء، والبرسيم جدائل كبيرة خضراء، وإذا بالمدن والنواقيس والأشجار ترقص وتتخالط في الأفق”.
يبدو وصف هوغو رائعًا ورومانسيًا، والغريب أنه صالح لوصف الحياة الحالية، العالم الذي نعيشه، حيث كل شيء يشبه شيئًا ما، وكل المشاعر والعواطف والأفكار أصبحت مثل شعاع، وصار من الصعب أن نصف تفاصيل ما نعيشه بدقة: تفاصيل الحزن، الحب، الغضب، السكينة.. تفاصيل الأماكن التي زرناها أو الروائح التي عايشناها. يمكن أن نقول إن الإنسان الحالي صار هو القطار.. يسير بسرعة ويرى أشياء لا يستطيع فهمها، وغير متأكد أن ما يجري من حوله حياة حقيقية أم شيء افتراضي يشبهها.
للمزيد: ما الذي حدث لرجل “أجاد العمل تحت ضغط”؟
يقول ميلان كونديرا: “عندما تسير الأمور بسرعة، لا يمكن لأحد أن يكون متأكدًا من أي شيء”. لكن هل يريد أحد أن يتأكد؟ ولو أبطأت الكتلة البشرية حركتها وبدأت ترى العالم بوجهه الحقيقي، فهل نحن على استعداد لتقبّل هذا الوجه؟ وهذا ما يفسره كونديرا، فهو يرى أن السرعة الحالية هدفها هو النسيان. وربما لهذا السبب يحاول البشر أن يُسرعوا بأقصى طاقتهم حتى لا يكون لهم ذاكرة.
السرعة الحالية هي محاولة نجاة من الذاكرة. البشر أضعف من الحقائق الموجودة، والتحول إلى قطار يمحو التفاصيل هو الطريقة الوحيدة للعيش بسلام. فمن لديه شجاعة البطء التي تُهدد بوجود ذاكرة؟! لذا من المهم أن يحدث كل شيء بسرعة، أن تظهر كلمة “عاجل” على الأخبار كل 5 ثوانٍ، ومن المهم أن تتغير الجغرافيا كل 10 دقائق، ومن المهم أن تتضارب الصفائح التكتونية تحت الأرض كل ساعة. كل هذه الضربات المتلاحقة للعقل لن تجعل للذاكرة وجودًا.
من المهم أن تكون السرعة قانون نجاة؛ فلتكن المشاعر سريعة في بنائها وهدمها، فلتكن الرسائل الصوتية بسرعة مضاعفة حتى لا نتذكر بأي طريقة سمعنا حزن الآخر أو فرحته، متى كسبناه، ومتى خسرناه إلى الأبد. فلتكن السرعة قانون نجاة، إما أسود أو غزلان، ولتستمر الكتلة البشرية راكضة، وليُهدد كل من يفكر في البطء بأنه سوف يُسحق تحت أقدام الآخرين، لذا لن يُبطئ أحدهم أبدًا، بل سوف يزيد سرعته، وستزيد رغبته في أن يسحق شخصًا أبطأ. لا بد أن تستمر الكتلة البشرية منطلقة كالقطار، حتى تصبح المشاهد على الجانبين شعاعًا، القمح ضفائر كبيرة صفراء، والبرسيم جدائل كبيرة خضراء، وإذا بالمدن والنواقيس والأشجار ترقص وتتخالط في الأفق.
للمزيد: Don’t look up فيلم